الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:قوله جل ذكره: {الحَمْدُ للهِ}:حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام هاهنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمَّا وصفًا وإمَّا خلقًا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحَوْله، وحمد الخَلْق له على إنعامه وطوْلِه، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود قدرة القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدي، والكون الصمدي، والبقاء الأزلي، والبهاء الأبدي، والثناء الديمومي، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطوْل، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد في ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه!.فصل: حمد الله نفسه: عَلمَ الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزَهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حَمِد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: {الحمد لله} فانتعشوا بعد الذِّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم لكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا:هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمَّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقِّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به في هذه الحالة فقال: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»: .فصل: تفاوت طبقات الحامدين لتباينهم في أحوالهم: وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم في أحوالهم؛ فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعي صفة نفعِه ودفعِه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفي غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القِسَم، وفرق بين من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم:وقوم حمدوه مُسْتَهْلَكِين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبِّرون، ومنه إليه يشيرون، يُجري عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذه بحكم جمع الجمع، كما قالوا: قوله جل ذكره: {رَبِّ العَالَمِينَ}.الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومُنشيها، ومُوجِد الرسوم والديار بما فيها. .قال السعدي: وتربيته لخلقه نوعان: عامة وخاصة فالعامة هي خلقه للمخلوقين ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر، ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة. اهـ..لطيفة: سبب جمع {العالمين} جمع قلة: فإن قيل لم جمع {العالمين} جمع قلة مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة؟ أجيب بأن فيه تنبيهًا على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه- تعالى-. اهـ..قال القاسمي: و{العالمين} جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها. اهـ..قال البغوي: فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق الرب معرفًا، إنما يقال رب كذا مضافًا لأن الألف واللام للتعميم، وهو لا يملك الكل، والعالمين جمع عالم والعالم جمع لا واحد له من لفظه، واختلفوا في العالمين، قال ابن عباس: هم الجن والإنس لأنهم مكلفون بالخطاب، قال الله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1] وقال قتادة ومجاهد والحسن: جميع المخلوقين. قال الله تعالى: {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما} [الشعراء: 24، 23] واشتقاقه من العلم والعلامة سموًا به لظهور أثر الصنعة فيهم. قال أبو عبيدة: أربع أمم الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم، لأنها لا تعقل، واختلفوا في مبلغهم. قال سعيد بن المسيب: لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وقال مقاتل بن حيان: لله ثمانون ألف عالم، ألفًا في البحر، وأربعون ألفًا في البر، وقال وهب: لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء، وقال كعب الأحبار: لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله، قال: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31]. اهـ..من فوائد ابن عرفة في الآية: قال رحمه الله:قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ} قال الزمخشري: الحَمْدُ والمدح أخوان. فقيل: معناه أنهما مترادفان، وقيل: متقاربان، وقيل: متغايران، فالحمد يطلق على الله تعالى والمدح لا يطلق عليه.وأما الشكر فحكى أبو حيان فيه ثلاثة أقوال قال الطبري: هو الحمد، وقيل: غيره، وقيل: الحمد أعمّ منه، فالحمد يطلق على الصفات الجميلة والشكر على الأفعال الجزيلة.وظاهر كلام الزمخشري قول رابع أن بينهما عموم وخصوص وجه دون وجه فالحمد يكون باللّسان على الصفات الجميلة والأفعال الجزيلة والشكر يكون بالقول والفعل والقلب على الأفعال خاصة، واحتجوا له بقول الشاعر:قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بانه لم يسمه شكرا وإنما سماه نعماء وعلى تقدير أن لو سمّاه شكرا فلا دليل فيه. لأن العربي إنّما يحتج بقوله فيما يرجع إلى نظم الكلام وأحكامه اللفظية الإعرابية.أما ما يحكم عليه بأنه كذا فلا يحتج به كما ذكر في الإرشاد الرد عليهم في استدلالهم على كلام النفس بقول الأخطل: وذكر هذه الأقوال الأربعة ابن هارون في شرح ابن الحاجب الأصلي.والألف واللاّم في الحمد إما للجنس أو للعهد أو للماهية.وقرر القاضي العماد الجنس بأنّ الحمد يختلف فيه القديم والحادث لأنّ الله تعالى في الأزل حمد نفسه بنفسه، فيتناول حمدنا له وحمده هو لنفسه وقرر العهد بأنّ النعم لما كان اللّسان يستحضرها فكأنه يعهدها إلى الله تعالى.واختار القاضي العماد أنها للماهية وضعف كونه للجنس، وقرر بأن الله تعالى تعبدنا بحمده، أي نحمده بما حمد به نفسه فالحمد القديم مماثل للحادث بمعنى اللفظ المؤدي باللّسان هو المعنى القديم الذي وصف الله به نفسه، كما أن القرآن قديم أزلى، ونحن نعبر عنه بألفاظنا الحادثة فالحمد إذا حقيقة واحدة.قال: وهذا البحث من نظري فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.قال ابن عرفة: وحاصله هل المعتبرُ في الحمد صفة الفاعل أو صفة متعلق الحمد، فإن اعتبرته الحمد من حيث الفاعل فهو حادث وإن اعتبرته من حيث صفة المحمود جاء منها الذي قاله العماد.ولما ذكر بعضهم كونها للجنس قال: إنها دالة على أفرادها مطابقة.قال ابن عرفة: هذا جار الخلاف في دلالة العام على بعض أفراده هل هو مطابقة تضمن أو التزام؟قال ابن عطية: وقرأ سفيان بن عينية ورؤبة بن العجاج: {الحمد} لله بفتح الدال علما على إضمار فعل.قال ابن عرفة: وقالوا وقراءة الضم أدل على الثبوت كقولهم له علم علم الفقهاء بالنصب والرفع.قال الزمخشري: ومنه قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَم} بالرفع في الثّاني ليدلّ على أنّ إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على الثبوت. وكذا قال السكاكى في علم البيان.قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون عليه تشكيكا من ناحية أن سلام الملائكة على إضمار فعل مؤكد بالمصدر، والدّال على إثبات الحقيقة وإزالة الشك عن الحديث الأعم من أن يكون وقوعه منهم ثابتا، أو لا؟ والاسم المرفوع دال على ثبوت وقوع السلام منهم أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا، فتعادلا، فليس أحدهما بأبلغ من الآخر.قال: وكان يمشي لنا الجواب عنه بأن سلام إبراهيم إنما هو بعد سلام الملائكة ردا عليهم، والبعدية تقتضي الحدوث والتجدّد، فلو عبر فيه بالفعل لتوهّم فيه الحدوث، وأنه إنّما سلم ردا عليهم فعبّر بالاسم تنبيها على أن سلامِيَ عليكم كان ثابت ولو لم تبدؤوني بالسّلام.وسلام الملائكة لما كان ابتدائيا لا يتوهّم فيه البعدية ولا أنه جواب وَرَدّ عبّروا فيه بالفعل إذْ لا ضرورة تدعو إلى التعبير بالاسم.قلت: وأورد بعض نحاة الزمان على هذا إشكالين.-الأول: كيف يصح حذف الفعل مع أن المصدر مؤكد له والفعل المؤكد يحذف لأن مقام الاختصار مناف لمقام التأكيد فيمنع أن يكون المصدر هنا مؤكدا؟-الثاني: إنما يمنع أن هذا أبلغ لأن هذا المصدر نائب مناب الفعل لا مؤكدا له وكأنه لم يحذف من الكلام شيء سلمنا أنه مؤكد لكن نقول: هو مؤكد لوجود الفعل وثبوته في نفس الأمر على سبيل الثبوت واللزوم، أو على سبيل التجدد والحدوث نظر آخر، وانظر ما قيدته في سورة الذاريات.قوله تعالى: {رَبِّ العالمين} قال الزمخشري: لفظ الرّب لا يطلق هكذا إلا على الله تعالى فهو في غيره مقيد بالإضافة تقول: ربّ الدّابة وربّ الدّار. قال ابن عرفة: فإن قلت: قد قال الأصوليون كل ما صدق مقيدا صدق مطلقا؟ فالجواب: أن ذلك باعتبار المفعولية وهذا باعتبار الإطلاق اللفظي. وفي حديث مسلم عن عبد الله بن عمر عن أبية في أشراط الساعة «أن تلد الأمَة ربتها». قال ابن عطية: ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن. والعدل إما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره، و: {قُلْ هُوَ الله أَحَد} على التوحيد فقط، وإما أن يكون فضلا من الله لا يعلل. اهـ.
|